السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
إذا أردت الإنتفاع بالقرآن الكريم : فاجمع قلبك عند تلاوته وسماعه ، والق سمعك ،
احضر حضور من يخاطبه به من تكلم به سبحانه منه إليه ، فإنه خطاب منه لك على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال تعالى : ( إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد ) [ سورة ق ، الآية : 37 ] .
وذلك أن تمام التأثير لما كان موقوفاً على مؤثر مقتضى ، ومحل قابل وشرط لحصول الأثر ، وانتقاء المانع الذي يمنع منه ، تضمنت الآية بيان ذلك كله بأوجز لفظ وابينه وأدلة على المراد ، قال ابن قتيبة : استمع كتاب الله وهو شاهد القلب والفهم . ليس بغافل ولا ساه .
فإذا حصل المؤثر : وهو القرآن ، والمحل القابل ، وهو القلب الحيّ ، ووجد الشرط ،
وهو الإصغاء ، وانتفى المانع ، وهو اشتغال القلب ، وذهوله عن معنى الخطاب وانصرافه عنه
إلى شيء آخر .
حصل الأثر وهو الإنتفاع والتذكر .
ومن تأملات كلام الله وخطابه نجد ملكاً له الملك كله ، وله الحمد كله . أزمة الأمور كلها بيده ، ومصدرها منه ومردّها إليه ، مستوياً على سرير ملكه لا تخفى عليه خافية في أقطار مملكته .
عالماً بما في نفوس عبيده . مطلعاً على أسرارهم وعلا نيتهم .
فتأمل كيف تجده يثني على نفسه ، ويحمد نفسه ، فيمجد نفسه ، وينصح عباده ، ويدلهم على ما فيه سعادتهم ويحذرهم مما منه هلاكهم .
ويشهد من خطابه عتابه لأحبابه ، ألطف عتاب ، وأنه مع ذلك مُقبل عثراتهم وغافر زلاتهم ، ومقيّم أعذارهم ، ومُصلح فسادهم . والناصر لهم ، والكفيل بمصالحهم ، والمجتبى لهم من كل كرب فإذا شهدت القلوب من القرآن ملكاً عظيماً ، رحيماً ، جواداً ، جميلاً . هذا شأنه ، فكيف لا تحبه ، وتُنافس في القرب منه ، وتنفق أنفاسها في التودد إليه ، ويكون أحب إليها من كل ما سواه ، ورضاه أثر عندها من رضا كل ما سواه .
وكيف لا تلهج بذكره ، ويصير حبه ، والشوق إليه ، والإنس به ، وهو غذاؤها وقوتها ودوائها ، بحيث إن فقدت ذلك فسدت وهلكت ولم تنتفع بحياتها .
منقول من كتاب روضة المحبوب من كلام محرك القلوب للإمام العلامة ابن القيم الجوزية .